كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عُمُومًا مَعَ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى آخِرِ الْكَلَامِ بَلْ يَصِيرُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ؟ إذْ لَيْسَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ، وَإِذَا بَطَلَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ وَقَفَ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيهِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ صِيغَةَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ صِيغَةُ الْعُمُومِ لَا تَدَافُعَ بَيْنَنَا فِيهِ، وَلَيْسَ لِلِاسْتِثْنَاءِ صِيغَةُ عُمُومٍ يَقْتَضِي رَفْعَ الْجَمِيعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الصِّيغَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُمُومِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَأَنْ لَا نُزِيلَهَا عَنْهُ إلَّا بِلَفْظٍ يَقْتَضِي صِيغَتُهُ رَفْعَ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ: عَبْدُهُ حَرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا إنْ شَاءَ اللَّهُ» فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْأَيْمَانِ،؛ إذْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ مُخَالِفٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِحُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّتِي هِيَ إلَّا وغَيْرَ وسِوَى وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَجُوزُ دُخُولُهُ إلَّا لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا طَالِقٌ كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِاسْتِحَالَةِ دُخُولِهِ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ؟ وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَجِبْ مِثْلُهُ فِيمَا وَصَفْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حَرٌّ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى الْجَمِيعِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدَمْ فُلَانٌ حَتَّى مَاتَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ وَعَتَقَ عَبْدُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْت، مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْلَهُ: إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إنْ لَمْ يَقْدَمْ فُلَانٌ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ إذَا كَانَ بَعْضُهُ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ الَّذِي هُوَ مَشِيئَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيْثُ كَانَ وُجُودُهُ عَامِلًا فِي رَفْعِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؟ وَجَائِزٌ أَنْ لَا يُوجَدَ الشَّرْطُ أَبَدًا فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْكَلَامِ رَأْسًا وَلَا يَثْبُتُ مِنْ الْجَزَاءِ شَيْءٌ، فَلِذَلِكَ جَازَ رُجُوعُ الشَّرْطِ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ كَمَا جَازَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ هُوَ شَرْطٌ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْمَحْضُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} و{إلَّا آلَ لُوطٍ} وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} لابد مِنْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي وَقْتٍ مَا وَأَنَّ مَنْ رَدَّ الِاسْتِثْنَاءَ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يَرْفَعُ حُكْمَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بَعْدَ ثَبَاتِ حُكْمِهِ فِي بَعْضِهَا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إلَّا آلَ لُوطٍ} غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِحُكْمِ النَّجَاةِ عَنْ الْأَوَّلِينَ، وَإِنَّمَا عَمِلَ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ.
وَيُسْتَدَلُّ بِمَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوعُهُ إلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَأَنْ لَا يُرَدَّ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ دُخُولُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ، فَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ الَّذِي عُمِلَ فِيهِ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ دُونَ غَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ لَفْظٍ لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ دُونَ اعْتِبَارِ لَفْظِ الْعُمُومِ، كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ.
وَلَمَّا جَازَ دُخُولُ شَرْطِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَائِرِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ لِرَفْعِ حُكْمِ اللَّفْظِ رَأْسًا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الْمَذْكُورِ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ، أَنَّ قَوْلَهُ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ، وَقَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} خَبَرٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ دُونَ رُجُوعِهِ إلَى الْأَمْرِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} لِلِاسْتِقْبَالِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَنْتَظِمَ لَفْظٌ وَاحِدٌ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ جَمْعُهُمَا فِي كِنَايَةٍ وَلَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِّ إذَا كَانَ أَمْرًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، وَلَا تَدْخُلْ الدَّارَ وَفُلَانٌ خَارِجٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنَّ مَفْهُومَ هَذَا الْكَلَامِ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْخُرُوجِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَمْرِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْآيَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ثُمَّ قَالَ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَمْرٌ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا}.
خَبَرٌ، فَرَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَإِنْ كَانَ أَمْرًا فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ الْخَبَرِ، فَلَمَّا كَانَ الْجَمِيعُ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ جَازَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجَمِيعِ، وَلَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {اجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى الْجَمِيعِ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَقُولُ مَتَى اخْتَلَفَتْ صِيَغُ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا لَيْسَ فِي مِثْلِ صِيغَتِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَإِنْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ جَازَ رَدُّهُ إلَيْهِ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فَهُوَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِهِ فِي الْأَصْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَتْ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ، ثُمَّ قَالَ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} صَارَ الْجَمِيعُ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ مَعًا لَا تَقَدُّمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَذْكُورِ بِأَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إلَى الْآخَرِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حُكْمٌ فِي التَّرْتِيبِ، فَكَانَ الْجَمِيعُ فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ مَعًا، فَلَيْسَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى سِمَةِ الْفِسْقِ بِأَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إلَى بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ وَالْحَدِّ، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِّ لَاقْتَضَى ذَلِكَ رُجُوعَهُ أَيْضًا وَزَوَالَهُ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ الْوَاوَ قَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ عَلَى مَا ذَكَرْت وَقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَهِيَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} لِلِاسْتِئْنَافِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لِلْجَمْعِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَيَنْتَظِمُهُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَصِيرُ الْكُلُّ كَالْمَذْكُورِ مَعًا، وَذَلِكَ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَمْرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَاغْسِلُوا هَذِهِ الْأَعْضَاءَ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ فَصَارَتْ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِهَذِهِ الْأَوَامِرِ.
وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا أَمْرٌ وَآخِرَهَا خَبَرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ؛ فَلِذَلِكَ كَانَتْ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ دُخُولُ مَعْنَى الْخَبَرِ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ عَائِدٌ إلَى الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ وَغَيْرُ عَائِدٍ إلَى الْخَبَرِ الَّذِي يَلِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لِأَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ عَذَابَ الْآخِرَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ مَشْرُوطَةٌ لِلْحَدِّ دُونَ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَدَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقًا بِالْفِسْقِ أَوْ يَكُونَ حُكْمًا عَلَى حِيَالِهِ تَقْتَضِي الْآيَةُ تَأْبِيدَهُ، فَلَمَّا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى بُطْلَانِهَا بِلُزُومِ سِمَةِ الْفِسْقِ يُبْطِلُ فَائِدَةَ ذِكْرِهِ؛ إذْ كَانَ ذِكْرُ التَّفْسِيقِ مُقْتَضِيًا لِبُطْلَانِهَا إلَّا بِزَوَالِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِرَأْسِهِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِسِمَةِ الْفِسْقِ وَلَا بِتَرْكِ التَّوْبَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ وَإِبْطَالُ حُكْمِهِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ حَمْلَهُ عَلَى مَا ادَّعَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفِسْقُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عِلَّةً لِمَا ذُكِرَ مِنْ إبْطَالِ الشَّهَادَةِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا؛ لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ؛ وَفِي ذَلِكَ إزَالَةُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَصَرْفُهُ إلَى مَجَازٍ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ وَأَنْ لَا يُجْعَلَ عِلَّةً لِغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ مَعَهُ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْجَلْدِ حُكْمٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى التَّوْبَةِ.
فَإِنْ قِيلَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الشَّهَادَةِ أَوْلَى مِنْهُ إلَى الْفِسْقِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ الْفِسْقَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ رَدُّهُ إلَى الْفِسْقِ مُفِيدًا وَرَدُّهُ إلَى الشَّهَادَةِ يُفِيدُ جَوَازَهَا بِالتَّوْبَةِ؛ إذْ كَانَ جَائِزًا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مَرْدُودَةً مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ، فَأَمَّا بَقَاءُ سِمَةِ الْفِسْقِ مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِي عَقْلٍ وَلَا سَمْعٍ؛ إذْ كَانَتْ سِمَةُ الْفِسْقِ ذَمًّا وَعُقُوبَةً، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ التَّائِبُ الذَّمَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَعْمَى غَيْرُ جَائِزِي الشَّهَادَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالتَّعْنِيفِ لَكِنْ عِبَادَةً؟ فَكَانَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الشَّهَادَةِ أَوْلَى بِإِثْبَاتِ فَائِدَةِ الْآيَةِ مِنْهُ إلَى الْفِسْقِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ التَّوْبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إنَّمَا هِيَ التَّوْبَةُ مِنْ الْقَذْفِ وَإِكْذَابُ نَفْسِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ اسْتَحَقَّ سِمَةَ الْفِسْقِ، وَقَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ تَبْقَى سِمَةُ الْفِسْقِ عَلَيْهِ إذَا تَابَ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِزَوَالِ سِمَةِ الْفِسْقِ عَنْهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ.
وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ سِمَةَ الْفِسْقِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ بِوُقُوعِ الْجَلْدِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ عِنْدَ إظْهَارِ التَّوْبَةِ أَنْ لَا تَكُونَ مَقْبُولَةً فِي ظَاهِرِ الْحَالِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ اللَّهِ؛ لِأَنَّا لَا نَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ، فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِأَنْ لَا نُصَدِّقَهُ عَلَى تَوْبَتِهِ وَأَنْ نَتْرُكَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَا نَتَوَلَّاهُ عَلَى حَسَبِ مَا نَتَوَلَّى سَائِرَ أَهْلِ التَّوْبَةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ أَفَادَتْنَا الْآيَةُ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَوُجُوبَ مُوَالَاتِهِ وَتَصْدِيقِهِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ تَوْبَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا أَسْلَمَ وَتَابَ، دَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ؛ إذْ كَانَ الذِّمِّيُّ مُرَادًا بِالْآيَةِ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّوْبَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَتْ التَّوْبَةُ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ كَانَ الْمُسْلِمُ فِي حُكْمِهِ لِوُجُودِ التَّوْبَةِ مِنْهُ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا اقْتَضَتْ بُطْلَانَ شَهَادَةِ مَنْ جُلِدَ وَحُكِمَ بِفِسْقِهِ مِنْ جِهَةِ الْقَذْفِ، وَالذِّمِّيُّ قَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ سِمَةُ الْفِسْقِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذِهِ السِّمَةَ بِالْجَلْدِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ وَإِنَّمَا جَلَدْنَاهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الِاتِّفَاقُ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ بِالْجَلْدِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ كُفْرِهِ فَأَجَزْنَاهَا كَمَا نُجِيزُ شَهَادَةَ سَائِرِ الْكُفَّارِ إذَا أَسْلَمُوا.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ مُرَادًا بِالْآيَةِ؛ إذْ لَمْ يَسْتَحْدِثْ سِمَةَ الْفِسْقِ بِوُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ.
قِيلَ لَهُ: هُوَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي حُكْمِهَا بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، وَإِنَّمَا أَجَازَ أَصْحَابُنَا شَهَادَةَ الذِّمِّيِّ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَتَوْبَتِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَدَّ فِي الْقَذْفِ يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَالَةُ الْإِسْلَامِ، وَالْآخَرُ عَدَالَةُ الْفِعْلِ؛ وَالذِّمِّيُّ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حِينَ حُدَّ فَيَكُونُ وُقُوعُ الْحَدِّ بِهِ مُبْطِلًا لِعَدَالَةِ إسْلَامِهِ، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ عَدَالَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، فَإِذَا أَسْلَمَ فَأَحْدَثَ تَوْبَةً فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ عَدَالَةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ أَيْضًا بِالتَّوْبَةِ؛ فَلِذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَإِنَّ الْحَدَّ قَدْ أَسْقَطَ عَدَالَتَهُ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ وَلَمْ يَسْتَحْدِثْ بِالتَّوْبَةِ عَدَالَةً أُخْرَى مِنْ جِهَةِ الدِّينِ؛ إذْ لَمْ يَسْتَحْدِثْ دِينًا بِتَوْبَتِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْدَثَ عَدَالَةً مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ إذْ كَانَ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وُجُودَ الْعَدَالَةِ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ إذَا تَابَ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى الشَّهَادَةِ كَرُجُوعِهِ إلَى التَّفْسِيقِ، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِقَبُولِهَا بَعْدَ الْحَدِّ كَهُوَ قَبْلَهُ.